انتخابات تونس الرئاسية- بين طموحات السلطة وبيئة انتخابية ملوثة

المؤلف: جمال الطاهر08.09.2025
انتخابات تونس الرئاسية- بين طموحات السلطة وبيئة انتخابية ملوثة

في أعقاب فترة عصيبة اتسمت بالجدل المحتدم والترقب الحذر من جانب المؤيدين والمعارضين على حد سواء، وفي ظل الغموض المشوب بالحذر الذي لفّ تحركات السلطة، أصدر الرئيس التونسي المنتهية ولايته، قيس سعيد، في الثاني من شهر يوليو/تموز من العام الحالي 2024، مرسومًا رئاسيًا حاسمًا يدعو فيه جموع الناخبين التونسيين إلى الإدلاء بأصواتهم في الانتخابات الرئاسية المرتقبة يوم السادس من شهر أكتوبر/تشرين الأول المقبل، وذلك قبل يومين فقط من انقضاء المهلة القانونية المحددة.

هذا الإعلان، الذي جاء بصعوبة بالغة، وضع حدًا للنزاع الدائر حول إمكانية تنظيم الانتخابات الرئاسية من عدمها، ليفسح المجال أمام نقاش أشد وطأة يتعلق بسلامة المناخ الانتخابي الذي ستجرى فيه هذه الانتخابات، وذلك من حيث الإطار القانوني الناظم لها، والإجراءات المتخذة، والهيكل المنظم، ومدى الالتزام بالمعايير الدولية المتعارف عليها للانتخابات الحرة والنزيهة والشفافة، والتي تضمن لجميع المترشحين مبدأ تكافؤ الفرص، وتحمي حق الناخب في حرية الاختيار، وتمنح الفائز الشرعية الكاملة التي يستند إليها في ممارسة مهامه.

تأتي هذه الانتخابات الرئاسية في خضم ظروف متضاربة تكاد تصل إلى حد التناقض، وتحمل في طياتها آمالًا وتطلعات متباينة ومتعارضة. فمن وجهة نظر السلطة الحاكمة، تسعى هذه الانتخابات إلى تمكين الرئيس الحالي، قيس سعيد، من الفوز بولاية رئاسية ثانية، وذلك بهدف إكمال مشروعه السياسي الطموح، وتوطيد أركان حكمه على حساب الفترة الانتقالية الديمقراطية وما انبثق عنها من مطالب ثورة الحرية والكرامة في عام 2011، والسعي نحو تحقيق ما يسميه "معركة التحرر الوطني".

في المقابل، ترى المعارضة السياسية في هذه الانتخابات فرصة ذهبية لتحقيق انتقال سلمي للسلطة عبر صناديق الاقتراع، بما يضع حدًا لحكم قيس سعيد الفردي والاستبدادي، ويفتح الباب أمام إنقاذ تونس من براثن الانهيار المالي والاقتصادي، والانفجار الاجتماعي المحتمل، وربما الانزلاق نحو الفوضى والاقتتال الأهلي.

وعلى صعيد آخر، تجري هذه الانتخابات في ظل حالة من العزوف الشعبي الواسع عن الاهتمام بالشأن العام، وتراجع الثقة في كل من السلطة والمعارضة، وهو ما قد ينعكس سلبًا على نسبة المشاركة في عملية الاقتراع.

بدايات مضطربة

مما يزيد من تعقيد المشهد الانتخابي، وجود العديد من الإشكاليات العميقة المتعلقة بالبيئة الانتخابية، والتي يرى فيها المراقبون من المجتمع المدني والمعارضون السياسيون لحكم قيس سعيد، تجاوزات خطيرة تهدد مصداقية الانتخابات وتثير الشكوك حول نتائجها.

وتتجلى هذه البدايات المتعثرة بوضوح في جميع جوانب البيئة الانتخابية المباشرة وغير المباشرة، والتي تشمل:

  • الهيكل المشرف على تنظيم الانتخابات: الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، وهي مؤسسة يطعن الكثيرون في استقلاليتها ونزاهتها، وذلك لأن أعضائها تم تعيينهم بموجب مرسوم رئاسي صادر عن الرئيس قيس سعيد نفسه في شهر أبريل/نيسان من عام 2022، وهو ما منحه الحق في تحديد تركيبتها واختيار رئيسها وعضوين من أعضائها السبعة، بالإضافة إلى تحديد قوانينها وصلاحياتها.

ويقضي هذا المرسوم بشكل عملي بحل الهيئة العليا المستقلة للانتخابات المنتخبة من قبل البرلمان في عام 2014، واستبدال ثلث أعضائها، وانتخاب رئيس جديد لها في عام 2019. وبهذا التعيين الرئاسي للهيئة المشرفة على الانتخابات، أصبح قيس سعيد، المرشح للانتخابات، خصمًا وحكمًا في آن واحد، وفقدت الهيئة استقلاليتها المفترضة، وهو ما أكده، بحسب العديد من المراقبين والمتابعين، أداء الهيئة في الاستحقاقات الانتخابية الثلاثة التي نظمتها خلال فترة حكم قيس سعيد.

  • القانون الانتخابي أو الإطار التشريعي المنظم للانتخابات: القانون الأساسي رقم 16 لسنة 2014 المؤرخ في 26 مايو/أيار 2014 المتعلق بالانتخابات والاستفتاء، والذي تم في إطاره تنظيم الانتخابات التشريعية والرئاسية لعامي 2014 و2019 والانتخابات المحلية في عام 2018، تم تنقيحه بمرسوم رئاسي من سعيد رقم 55 لسنة 2022 بتعديل فصول وإلغاء فصول وإضافة أخرى بناءً على دستور قيس سعيد (2022)، قبل تعديله مرة ثانية بمرسوم رئاسي جديد في أكتوبر/تشرين الأول 2022، أي خلال الفترة الانتخابية التي لا يجوز فيها تغيير قواعد العملية الانتخابية.

وشملت هذه التعديلات تغيير نظام الاقتراع من القوائم إلى الاقتراع على الأفراد، وتغيير شروط الترشح وكيفية تقديم الترشيحات، بالإضافة إلى قضايا أخرى. كما تضمنت التعديلات إضافة مسائل لم يتم إدراجها من قبل في القوانين الانتخابية السابقة، مثل مسألة سحب الوكالة من أعضاء المجالس المنتخبة.

ولم تقتصر التجاوزات التي طالت القانون الانتخابي على التعديلات التي أصدرها الرئيس قيس سعيد والتي تتسم بالانفرادية وتكرس الحكم الفردي الاستبدادي والسيطرة على منظومة الانتخابات بأكملها، بل إن هيئة الانتخابات نفسها ارتكبت "تجاوزات" من خلال ممارسة اختصاصات وصلاحيات لا تندرج ضمن مهامها، وإنما هي من صميم عمل المجلس النيابي.

فبينما كانت التسلسلية في إصدار التشريعات تقتضي أن يتولى مجلس نواب الشعب سن قوانين جديدة، تعديلًا أو إنشاءً، بناءً على ما ورد في دستور 2022، اختارت هيئة الانتخابات "المبادرة" بطريقة أحادية من خلال إصدار قرار رقم 544 لسنة 2024، بتاريخ 4 يوليو/تموز، يتعلق بقواعد وإجراءات الترشح للانتخابات الرئاسية، ويتضمن مجموعة من الإجراءات والترتيبات التنظيمية للانتخابات الرئاسية، وخاصة فيما يتعلق بشروط الترشح والتزكيات الشعبية.

ومن الأمثلة على ذلك، اشتراط تقديم وثيقة تثبت الجنسية التونسية للمرشح وأمه وأبيه وجده لأمه وجده لأبيه، واشتراط تقديم ضمان مالي بقيمة عشرة آلاف دينار، ونسخة ورقية من قائمة التزكيات وعددها عشرة آلاف تزكية شعبية، أو عشر تزكيات من نواب في المجلس النيابي أو المجلس الأعلى للجهات والأقاليم، مع نسخة رقمية مطابقة للنسخة الورقية تتضمن أسماء المزكين وعناوينهم.

كما اشترطت الهيئة على المرشحين تقديم وثيقة السجل العدلي واعتبرتها شرطًا أساسيًا لقبول طلب الترشح، مع العلم أن مصالح وزارة الداخلية تحتكر إصدار هذه الوثيقة. كما طالبت المرشحين الذين لديهم قضايا معروضة أمام القضاء بتقديم شهادة نشر في هذه القضايا، وهي وثيقة غير موجودة أصلًا، أو نسخة من الحكم في القضايا التي صدر فيها حكم نهائي.

لكن معاناة المرشحين المحتملين، وخاصة المنافسين الجديين للرئيس قيس سعيد، لم تتوقف عند هذه الصعوبات والعراقيل التعجيزية، بل تجاوز الأمر ذلك إلى حد مقاضاتهم (سبعة مرشحين من بين أربعة عشر مرشحًا) بتهمة "ارتكاب مخالفات في سجل التزكيات" والحكم عليهم بثمانية أشهر سجنًا، والحرمان مدى الحياة من الترشح للانتخابات الرئاسية، لتكتمل بذلك ما يمكن تسميته ب "المجزرة الانتخابية" بهدف إخلاء الساحة من جميع المنافسين وفتح المجال أمام قيس سعيد لخوض السباق الانتخابي دون أي منافس حقيقي.

  • الإعلام: تحول الإعلام في عهد سعيد من إعلام عمومي إلى إعلام رئاسي موالٍ للسلطة، حيث تم إغلاق جميع المنابر الإعلامية أمام المعارضين من السياسيين ونشطاء المجتمع المدني، ولم يسلم من ذلك حتى الإعلام الخاص الذي وجد نفسه مضطرًا للإذعان لضغوط السلطة وتهديداتها وابتزازها، والاختيار بين تبني أجندة سعيد أو التعرض للملاحقات والإفلاس.

فقد تم إلغاء جميع البرامج السياسية وسجن العديد من الصحفيين والمعلقين والمدونين بناءً على المرسوم رقم 54 الذي يقيد حرية الإعلام، والذي أوقع حتى الآن أكثر من ألف وسبعمائة ضحية بين معتقل وسجين، الأمر الذي أضفى نوعًا من الصمت المطبق على المشهد الإعلامي التونسي بعد أن كانت الأصوات فيه حرة وعالية خلال فترة الحريات والانتقال الديمقراطي (2011-2021).

  • الاعتقالات والمحاكمات: شملت الاعتقالات عددًا كبيرًا من القيادات السياسية المعارضة من مختلف الأطياف تقريبًا، واستمرت في التوسع لتشمل السياسيين والنقابيين والمثقفين ونشطاء المجتمع المدني. ومن بين هؤلاء مرشح محتمل منافس لقيس سعيد هو الدكتور لطفي المرايحي الأمين العام لحزب الاتحاد الشعبي الجمهوري، وآخرون منعوا من تقديم ترشحاتهم مثل عبير موسي رئيسة الحزب الدستوري الحر، وغازي الشواشي الأمين العام السابق لحزب التيار الديمقراطي، وعصام الشابي الأمين العام للحزب الجمهوري.

هذا بالإضافة، كما ذكرنا سابقًا، إلى السبعة مرشحين المحتملين الذين تمت مقاضاتهم والحكم عليهم بثمانية أشهر سجنًا مع الحرمان مدى الحياة من الترشح للانتخابات الرئاسية.

  • الأزمة الاقتصادية والضيق الاجتماعي: تتفاقم الأزمة الاقتصادية وتتزايد مخاطرها خلال السنوات الثلاث من الحكم الفردي المطلق لقيس سعيد، الذي أظهر عجزًا وفشلًا ذريعًا في إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية.

لقد وجد المواطن التونسي نفسه، الذي ربما كان يأمل خيرًا في قيس سعيد عندما أعلن إجراءاته الاستثنائية مساء 25 يوليو/تموز 2021 وأطلق وعوده بتحسين ظروف معيشة التونسيين، يعاني اليوم من غلاء الأسعار، ومن طوابير الانتظار للحصول على المواد الأساسية المختفية من الأسواق، ومن تدهور الخدمات العامة، خاصة في مجالات الصحة والنقل والتعليم.

ولم يمر وقت طويل حتى تحول التونسي من الأمل في التغيير مع قيس سعيد إلى خيبة أمل جديدة، وربما إلى البحث عن تغيير قيس سعيد نفسه.

عندما تجتمع كل هذه العوامل في سنة انتخابية مهمة، فإنها لا تؤدي إلا إلى بيئة انتخابية متوترة، تشوبها خلافات حادة بين السلطة والمعارضة نتيجة لتجاوزات عديدة صارخة وفاضحة تقف وراءها إرادة سياسية تسعى إلى التحكم في المسار الانتخابي ونتائجه.

ومثلما كانت بدايات المسار الانتخابي متعثرة ومليئة بالعديد من الثغرات المخلة بالنزاهة، فإن النهايات والمآلات قد تكون مفتوحة على الأسوأ، ما بين إلغاء الانتخابات بحكم قضائي أو بقرار سياسي يستند إلى حكم قضائي من المحكمة الإدارية، أو المضي قدمًا في المسار مع الإخلالات والإعلان عن نتيجة معروفة مسبقًا ومطعون فيها لاحقًا بسبب افتقار البيئة الانتخابية إلى الشروط والمعايير التي تجعل منها حرة وديمقراطية وشفافة ونزيهة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة